
حين يكتب إسحق الحلنقي، فإن القصيدة لا تُقال، بل تُتنفَّس، كلماته تمضي إلى القلب بلا إستئذان، مشبعة ببساطة آسرة وبلاغة ناعمة لا تصرخ، بل تهمس، في “يا حنين”، يصوغ الشاعر الحنين لا كمجرد شعور، بل ككائن حي، يشبه عش العصفور المعروش بالنور، كله محبة، استعارة غارقة في الطراوة والدفء، ترسم صورة حسية مرهفة لا تحتاج لتفسير بقدر ما تحتاج إلى قلبٍ عاشق ليفهمها
القصيدة تبني عالماً مدهشاً من الصور الشعرية الهادئة المشتعلة في آن، عالم تذوب فيه الدموع لتصبح شموعاً، وتتوّج فيه الزهرة بتاج، عالمٌ لا تسود فيه السلطة ولا القوة، بل تسود فيه سلطة القلب وحده، العيون حين تتأمل في المحبوب لا تنتقص من حسنه، وكأن المحبة هنا لا تستهلك المحبوب بل تُفنيه فتخلّده
إسحق الحلنقي لا يستخدم اللغة ليروي قصة حب، بل يجعل اللغة نفسها تعيش حالة الحب، هذا الشعر لا يصرخ في وجه القارئ، بل يقتاده برقّة إلى داخله، حيث الشجن مقيم والبوح مقيم والرجاء لا يموت، حتى النداء المتكرر “يا حنين” لا يأتي كعبارة نداء فقط، بل يحمل في طياته توسلاً، واستدعاءً، واعترافاً ضمنياً بأن هذا الحنين ليس شخصاً، بل وطن شعوري كامل
أما لحن أحمد المك، فهو ضوء خافت يتسلل من النافذة المفتوحة على الذكرى، لحن لا يعلو على النص، بل يتنفس معه، يجري برقة، لا يُغرق ولا يُصخب، يفتح مساحة للصوت ليحكي، للعاطفة أن تهمس، وللشجن أن يتمدد، الألحان متزنة، تهتز على وقع النبض الداخلي للكلمات، كأنما وُلدت معها في لحظة وجع واحدة، اللون الموسيقي هنا سوداني صرف، يختزن في روحه ملامح من الطرب الأصيل، لكن مع تطعيم خفيف يجعل الأغنية تصلح للسماع المتجدد دون أن تفقد جذورها
صوت عافية حسن في هذه الأغنية لا يغني فقط، بل يهمس، يتوجع، ويتمنى، أداؤها ليس أداءً فنياً بالمعنى التقليدي، بل هو حالة شعورية تسللت من روحها إلى المايكرفون، ومنه إلى أرواح المستمعين ، لا تتكلف عافية الأداء، بل تلبس النص كأنها كتبته، تغنّيه كأنها كتبته دمعاً على كفّها، صوتها يحمل صدقاً نادراً، وانكساراً أنيقاً، وقوة كامنة تحت سطح الهدوء
“يا حنين بيك الليل ضوّى”، عبارة واحدة تختصر مجد الأغنية كله، وتفتح باباً للخيال، كيف يمكن لليل أن يضيء؟ فقط حين يتسلل الحنين إلى زواياه، ويجعل من الظلمة موطناً دافئاً، هذه ليست أغنية فقط، بل قصيدة عشق مُلحنة، تحمل في كل بيت منها مرآة لقلوب لم تتوقف يوماً عن الانتظار
إني من منصتي أستمع … إلي “يا حنين” فهي عمل لا يُنسى، لأنه كتب ولُحن وغُنّي بصدق، صدق لا يعرف الصراخ ولا الضجيج، بل يكتفي بأن يلامسك من الداخل، مرة واحدة فقط، تكفي لتبقى عالقاً فيه مدى الحياة.