مقالات

أغروك ولا براك نسيت ؟

من أعلي المنصة ...ياسر الفادني

في أغنيته “أنا قلبي ما بعرف خصام”، يغوص حيدر بورتسودان عميقًا في طبقات الشعور الإنساني، في مساحة تتقاطع فيها البساطة والصدق، ويعبر بصوته عن تجربة الفقد، لا كحالة عابرة، بل كمرور ثقيل عبر حقل من الذكريات الرطبة، الكلمات تنساب دون تعقيد لكنها مشبعة بصور شعرية قوية تُلمح أكثر مما تُصرّح، وتحفر في الذاكرة عتابًا لا يريد أن يؤذي، لكنه يرفض أن يُنسى

الافتتاحية “أغروك ولا براك نسيت” تقف كعلامة بلاغية تحمل إستنكارًا ناعمًا، سؤالًا يحاول أن يبرر الخيانة قبل أن يُدينها، وهذا في ذاته عمق شعوري يعكس شيمة سودانية أصيلة، تتجنّب الخصام وتنتصر للود، حتى عند الإنكسار… ومن هناك تبدأ القصيدة في رسم مشاهد العشرة والحنين، برياضٍ “وارفة” وحياة كانت تمضي على مهل، كما لو أن العاطفة كانت وطنًا حقيقيًا، لا لحظة طارئة

 

حيدر بورتسودان يختار مقامًا لحنيًا بسيطًا، لكنه يترك للأداء الصوتي أن يملأ الفراغ العاطفي، لا يصرخ، لا ينوح، بل يُغني كما لو أنه يحكي، صوته الرمليّ المشوب بندى البحر يمنح الكلمات  إنكسارًا ناعمًا، وينقل الوجع بتسامٍ لا ادّعاء فيه، التكرار في الجملة “أنا قلبي ما بعرف خصام” ليس عبثيًا، بل مقصود ليحفر هذه الجملة في وعي المستمع كتعويذة ضد القسوة، وموقف إنساني متسامٍ ضد الخذلان

 

الموسيقى تشتغل على التدرج اللحني دون زحام، تفسح المجال للكلمات لتتنفس وتستقر في وجدان السامع ويأتي التكرار الختامي الطويل لـ”الوفاء” كذروة عاطفية تُغلق الدائرة بوجع خافت، لكنها لا تنكسر، وهنا يكمن سر الأغنية: لا تسعى للانتصار، بل للاحتفاظ بكرامة الشعور حتى في الخسارة

إني من منصتي ….استمع بحب لهذه  الأغنية التي تعيش في وجدان المستمع السوداني لأنها تشبهه: رقيق في محبته، عنيد في وفائه، كريم في خصامه، تُغنى في لحظات الخيبة، وتُستعاد في الليالي التي يغمرها صمت الذكرى، هي ليست مجرد عمل فني، بل حالة وجدانية تحفظها الذاكرة الجمعية تمامًا كما تُحفظ أسماء المدن والراحلين.

النصر نيوز

المدير العام ورئيس التحرير:     ام النصر محمد حسب الرسول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى