
في أغنية “ليه كل العذاب” التي كتبها التجاني حاج موسى ولحنها بدر الدين عجاج، وغناها العندليب زيدان إبراهيم، يتجسد الحزن العاطفي في أوضح تجلياته، النص ليس مجرد شكوى عابرة من ألم الفراق أو الخيانة، بل هو إعتراف مطوّل، مؤلم، وصادق، عن خذلان دائم يأتي ممن نحب، منذ السطر الأول، “ليه كل العذاب، ليه كل الألم”، تدخل القصيدة مباشرة في عمق الوجدان دون مقدمات، وكأنها تنقل حالة روحية لشخص لا يجد تفسيراً لمعاناته، لكنه لا يستطيع سوى أن يعيشها ويغنيها
أسلوب التجاني حاج موسى في هذه الأغنية بسيط في ظاهره، لكنه عميق في جوهره، يستخدم ثنائيات محورية: الحب والعشم، القرب والجفا، العطاء والخذلان، كلها تنسج نسيجًا دراميًا داخليًا يجعل المتلقي لا يسمع الكلمات فقط، بل يشعر أنه هو الذي يقولها المفارقات الشعرية مثل “بزرع في المحبة وحصادي العشم” ليست فقط بلاغية، بل تحمل فلسفة كاملة عن الوجدان الإنساني حين يُستثمر في من لا يستحق
الجانب اللحني الذي أبدعه بدر الدين عجاج يحاكي هذه الحالة الشعورية بدقة نادرة، اللحن يمضي ببطء، لا يتعجل، يتنفس كما يتنفس الحزن، لا يصرخ، لا يقفز، بل يسير كأن خطواته تُحسب على إيقاع نبض القلب الكسير. التكرارات في اللازمة الموسيقية، خاصة في “ليه كل العذاب”، تُحول العبارة إلى طقوس وجدانية، كأنها نشيد لحبٍ مات ولم يُدفن
ثم يأتي زيدان إبراهيم، العندليب، ويضع لمساته الصوتية الساحرة التي تحوّل النص واللحن إلى حالة فنية متكاملة، لا أحد يغني الحزن مثل زيدان! ، صوته لا يحتاج أن يعلو، بل يكفي أن يتموّج في مساحة ضيقة ليحملك معه إلى قاع الألم دون مقاومة، طريقة أدائه للجمل مثل “بحبك والله عالم ده حب احترت فيه” تجعلك تصدق أنه عاش كل حرف فيها، بل أنه لم يغنها بل بكى بها، نبرته المرتجفة، سكونه المدروس، وتمسكه بالحرف الأخير من كل بيت، يجعل المستمع يشعر وكأن الكلمات لا تُقال، بل تُنزف
“ليه كل العذاب” ليست أغنية تُسمع،بل صيرورة أسى ، فيها من الصدق ما يجعلها تعيش رغم مرور الزمن، وفيها من الجمال ما يجعل الألم نفسه يبدو أنيقاً، هي واحدة من تلك الأعمال التي لا تموت، لأنها لا تُخاطب الأذن فقط، بل تسكن في جوف القلب وتظل هناك، تُعيد تشغيل نفسها كلما مرّت ذكرى، أو إنكسر شيءٌ في داخلنا
إني من منصتي أستمع واتحسس أن هذه الاغنية ….لو كانت مدينة، لكانت تسكنها الأشواق وتمطر فيها الحناجر المبحوحة. زيدان لم يغنِ فقط، بل فتح نافذة على قلبه وقال: هذا أنا… وهذا وجعي…. خذوه وغنّوا به أنتم أيضاً ! .