
في زمنٍ تكالبت فيه الأزمات وتزاحمت المحن على هذا الوطن الجريح، يخرج الشعب السوداني كعادته ليعلم العالم درساً جديداً في الوفاء والشهامة والكرامة، وسط لهيب الحرب وضيق المعاش وقهر النزوح، تتخلق من بين الركام مبادرة عظيمة يقودها معظم الولاة وأبناء المجتمع، عنوانها: الأضحية لأسر الشهداء. ليست حملة رسمية جوفاء، بل هي صرخة حب من القلوب، وتحية وفاء لمن قدموا دماءهم مهراً لبقاء الوطن
هذا الفعل النبيل ليس مجرد توزيع أضاحٍ، بل هو تجسيد لأسمى معاني الانتماء، وأبلغ صور التقدير للذين رحلوا بأجسادهم، لكن أرواحهم ما زالت تحرس هذا التراب، ما أجمل أن ترى من بين الناس من يخرج من قوته، من جيبه، من احتياجات أهله، ليشتري أضحية لأسرة شهيد لا يعرفها، لكنه يعرف ماذا يعني أن تضحي بروحك من أجل الجميع، هؤلاء هم السودانيون الحقيقيون، لا ينسون أبطالهم ولا يتخلون عن ذويهم، مهما ادلهمت الخطوب وضاقت السبل
وبرغم الحرب والخراب، تجد الأسواق تنبض بالحياة، ويزدحم سوق الأضاحي كأن السودان لا يعرف الانكسار، كأن أهله قرروا أن لا يتنازلوا عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولو اجتمع العالم كله على منعهم، من أين يأتي هؤلاء الناس بكل هذا الصبر؟ من أي معدن صنعوا؟ أي سر يسكن في وجدانهم يجعلهم يحيون سنة العيد وسط الموت، ويزرعون البسمة في وجوه الأرامل والأيتام وسط الدمار؟
منذ إشتعال هذه الحرب، والشعب السوداني يلتحم مع قواته المسلحة في مشهد نادر، لا تراه إلا في صفحات المجد، لا تسمع عنه إلا في سير الأولين، إلتفافٌ كامل، ليس بالدعاية أو الخطب، بل بالفعل والدم والتضحية والوفاء. هذا شعب علّم العالم كيف يكون الثبات على الحق، كيف يكون الصبر على الابتلاء، وكيف يكون حب الأرض حين تُروى بالدماء الزكية
إني من منصتي أنظر ….حيث أري أن هذه القيمة ليست مجرد حملة إجتماعية، بل هي شهادة حية بأن السودانيين لا يزالون بخير، وأن معدنهم الأصيل لا تصدأه الحروب ولا تكسره المعاناة،هذا شعب معلم بلا شك، وكل من يشكك في عظمة هذا الوطن، فليقرأ ما يحدث الآن، فليدخل الأسواق، فليزر أسر الشهداء، فليسمع الحكايات… وسيعلم أن السودان ليس مجرد وطن، بل أسطورة من الصبر والكرامة والنُبل، يخطها أهله كل يوم بالعرق والدم والدعاء.