
بعد أسبوعين من التصعيد العسكري الخطير بين إيران وإسرائيل، بدعم أمريكي غير مباشر، ومع دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، تبرز حقيقة واضحة لا أحد خرج منتصراً من هذه الحرب، لكن الجميع خرج بدروس عميقة. فقد كشفت المعركة أن القوة وحدها لا تكفي، وأن الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة من إعادة التوازنات، وربما التفاهمات غير المعلنة.
إيران: باقية وقادرة على الرد
رغم الخسائر البشرية والمادية التي تكبّدتها إيران، خصوصا في منشآت حساسة وقيادات عسكرية، إلا أنها أثبتت أنها لا تزال قادرة على الرد بقوة، وتمتلك شبكة إقليمية معقدة من الحلفاء قادرة على فتح عدة جبهات في وقت واحد. حزب الله، الحشد الشعبي، والحوثيون جميعهم باتوا عناصر ضغط في يد طهران.
الرسالة الأهم التي بعثت بها إيران عبر هجماتها الصاروخية والمسيّرات: “لسنا لقمة سائغة”.
ورغم التفاوت الكبير في الإمكانيات، فإن مبدأ الردع تحقق بشكل غير مسبوق.
إيران: بين الخسائر التقنية والانتصار الرمزي.
رغم أن الحرب كشفت عن اختراقات استخباراتية وأمنية مؤلمة داخل إيران، خصوصاً استهداف قيادات عسكرية حساسة، ومواقع استراتيجية، إلا أن النتيجة الاستراتيجية تميل لصالحها.
لقد أثبتت إيران أنها تملك صواريخ دقيقة، وتكنولوجيا طائرات مسيّرة متقدمة، وقادرة على اختراق الدفاعات الإسرائيلية المتطورة.
وهذا ما أعاد صياغة الصورة الذهنية لقدراتها العسكرية، ليس فقط في المنطقة، بل حتى على مستوى المجتمع الاستخباراتي والعسكري الغربي.
إيران الآن وبعد هذه المواجهة مرشحة لأن تصبح قوة ردع إقليمية فاعلة، بل وربما سوقا مفتوحاً لإنتاج وبيع السلاح لحلفائها وشركائها من الدول والتنظيمات. ومن المتوقع أن تستثمر هذه التجربة في تسريع تطوير صناعاتها العسكرية. وفرض معادلة جديدة: “لسنا فقط مقاومة، بل نملك منظومة ردع كاملة وقابلة للتصدير”.
إسرائيل: القوة لا تكفي
لأول مرة منذ عقود، تواجه إسرائيل تهديداً مباشراً من إيران على أراضيها، في وقت تعاني فيه من أزمة سياسية داخلية وانقسام شعبي متزايد. ورغم تفوقها العسكري، أدركت تل أبيب أن الحرب ضد إيران لا يمكن حسمها بضربات خاطفة.
فشل حكومة نتنياهو في تحقيق نصر حاسم، وتزايد الضغوط الداخلية جميعها عوامل دفعت نحو قبول وقف إطلاق النار، وإن بدا مشروطا وغير مستقر.
لقد فهمت إسرائيل أن حسم المعركة مع إيران يتجاوز قدراتها المنفردة.
الولايات المتحدة بين الردع وعدم التورط
رغم دعمها الثابت لإسرائيل.
إن الولايات المتحدة لم تكن راغبة في الانخراط المباشر في حرب شاملة، خصوصاً مع انشغالها بملفات الصين وروسيا، لذلك اكتفت واشنطن بتقديم الدعم اللوجستي والدبلوماسي، ودفعت باتجاه وقف التصعيد.
تدرك واشنطن اليوم أن القوة وحدها لا تصنع الاستقرار، وأن التفاهم مع إيران رغم صعوبته قد يكون أكثر واقعية من خوض حروب لا يمكن ضمان مآلاتها، ولا تتحمل تكاليفها في هذا التوقيت الجيوسياسي الحرج.
التكاليف الباهظة، وصدع شعار “أمريكا أولًا”
منذ بداية عملية “طوفان الأقصى”، سارعت الولايات المتحدة إلى دعم إسرائيل بشكل مباشر، وبلغ حجم المساعدات العسكرية والمالية حتى الآن أكثر من 22 مليار دولار شملت: منظومات دفاع جوي، ذخائر دقيقة، دعم استخباراتي ولوجستي.
كما أن واشنطن لا تزال تتحمل الجزء الأكبر من ميزانية حلف الناتو، والتي بلغت خلال السنوات الأخيرة ما يزيد عن 35 تريليون دولار كمجموع التزامات أمنية وعسكرية في أوروبا وحول العالم.
هذا الانخراط المكثف خارج الحدود، يضعف من صدقية شعار “أمريكا أولًا”، خاصة في نظر الرأي العام الأمريكي الذي يطالب منذ سنوات بتقليص الإنفاق الخارجي، والتركيز على التحديات الداخلية مثل: التضخم، الحدود، التعليم، والبنية التحتية.
وتواجه الإدارة الأمريكية سؤالاً صعباً كيف يمكنها الاستمرار في الدفاع عن إسرائيل والناتو، والانخراط في صراعات بعيدة، بينما يعاني الداخل الأمريكي من انقسامات اقتصادية وسياسية عميقة ؟
سؤال حرج لماذا لم تشترط إيران وقف العدوان على غزة ؟
من أكثر التساؤلات حساسية بعد وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل هو:
لماذا لم تصرّ إيران على وقف العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين كشرط أساسي في تفاهمات التهدئة ؟
رغم أن إيران ترفع شعار “دعم المقاومة” منذ عقود، إلا أن غياب اشتراط وقف الحرب على غزة في أي تفاهم أو مساع للتهدئة أثار شكوكا حول أولويات طهران الحقيقية.
هذا الموقف، أو غيابه فتح الباب أمام أصوات تقول إن إيران في لحظات معينة قد تقدم مصالحها الاستراتيجية على حساب القضية الفلسطينية، وإنها مستعدة لتفاهمات تحصن أمنها دون شرط حماية حلفائها.
لكن بالمقابل لا يمكن تجاهل أن إيران ما تزال تعتبر ورقة فلسطين رصيداً دائماً في خطابها الإقليمي، وربما تسعى في المرحلة المقبلة إلى العودة للعب هذا الدور بشكل أوضح من خلال الضغط السياسي، والدعم العسكري غير المباشر، خصوصاً إن تعثرت تفاهماتها مع واشنطن.
وإذا أرادت إيران الحفاظ على شرعيتها كـ”راعية للمقاومة” فعليها أن تربط أي تهدئة مستقبلية بملف فلسطين، وإلا ستخسر هذا الرصيد الرمزي أمام حلفائها وشعوب المنطقة.
ما بعد الحرب: توازنات جديدة وتحالفات قيد التشكل:
ما يمكن قوله بثقة بعد هذه الحرب هو أن الأوضاع في المنطقة والعالم لن تعود كما كانت.
فهذه المواجهة لم تكن مجرد اشتباك محدود، بل لحظة كاشفة لحدود القوة الأمريكية، ولعجز إسرائيل عن فرض معادلة ردع من طرف واحد، ولقدرة إيران على الصمود والرد.
الدول التي لا تتفق مع إسرائيل والولايات المتحدة، سواء في الشرق الأوسط، أو خارجه، ستأخذ هذه النتائج بعين الاعتبار، وستعمل على بناء قدراتها الذاتية، وتطوير تحالفات جديدة، لا تقوم فقط على الردع العسكري، بل على توازنات تشمل الاقتصاد، الطاقة، والتحالفات السياسية.
العالم يبدو متجهاً نحو نظام دولي متعدد الأقطاب، حيث لم تعد واشنطن قادرة على رسم المسارات وحدها، ولم تعد إسرائيل محصنة من الرد، وهو ما يدفع قوى دولية صاعدة مثل: إيران، وروسيا، والصين، إلى إعادة تعريف موازين القوى انطلاقاً من هذه المعطيات الجديدة.
تركيا بين المحورين: البحث عن مكان في التوازن الجديد
في خضم هذه التحولات.
تبرز تركيا كقوة إقليمية طموحة تسعى لإعادة ضبط موقعها بين القوى الكبرى.
فبينما هي عضو فعال في حلف الناتو، إلا أن علاقاتها المتوترة مع إسرائيل، وتفاهماتها السياسية والاقتصادية المتزايدة مع إيران، تجعلها في موقع حساس.
تركيا لا ترغب في القطيعة مع الغرب، لكنها أيضاً لا تثق بالكامل في واشنطن، أو تل أبيب.
ومن هذا المنطلق من المرجّح أن تسعى أنقرة إلى تعزيز مكانتها عبر مقاربة براغماتية، توازن بين شراكتها مع الغرب، ومصالحها في الشرق، خاصة في ظل المتغيرات الجديدة.
ستسعى تركيا للعب دور الوسيط حينا، والشريك حينا آخر، وربما تتحول إلى فاعل مستقل في معادلة الشرق الأوسط الجديد، مستفيدة من موقعها الجغرافي، وقوتها الاقتصادية والعسكرية، وطموحاتها السياسية.
الخلاصة: لقد خاضت إيران وإسرائيل وأمريكا اختبار القوة، وخرجت بنتيجة واحدة: لا مجال للحسم العسكري الكامل، بل إعادة تموضع، وبحث عن صيغ تعايش غير مباشر.
المرحلة القادمة ستكون مرحلة الضغط السياسي، وتفاهمات غير مباشرة، وردع متبادل هش.
الحرب أثبتت أن الشرق الأوسط لا يحتمل مغامرات كبرى جديدة، بل يحتاج إلى عقلانية نادرة في زمن الغليان.