
في عصرنا الراهن، أصبح العالم قرية رقمية صغيرة، متصلة ببعضها البعض على مدار الساعة، حيث تتدفق المعلومات والأخبار والصور والمقاطع المرئية بسرعة مذهلة، وعبر قنوات ومنصات متنوعة، لم يكن أحد ليتصور وجودها قبل عقدين من الزمن. لقد قفزنا قفزة عملاقة من الإعلام التقليدي الذي يعتمد على الصحف الورقية والراديو والتلفاز، إلى إعلام رقمي سريع، متعدد الوسائط، يُبث ويُتابع لحظة بلحظة، ويشارك فيه الجميع.
هذا التحول الرقمي في المشهد الإعلامي، رغم ما يحمله من فرص واعدة ومزايا هائلة، خصوصًا في إيصال المعلومة وتوثيق الحدث ونقل الصوت والصورة في وقت قياسي، إلا أنه في الوقت ذاته يحمل تحديات كبيرة ومخاطر جسيمة، خاصة إذا لم يُحسن استخدامه أو إذا وقع في أيدٍ تجهل أبعاده وتفتقر للخبرة والدراية.
إنّ الصحافة مهنة لها قواعد وأخلاقيات، وهي ليست مجرد نقل خبر أو تصوير مشهد ونشره للعامة، بل هي مسؤولية وطنية ومجتمعية، لا ينهض بها إلا من امتلك أدواتها، وتدرّب عليها، وحصل على تراخيص مزاولتها. فالصحفي المحترف يدرك ما ينشر وما لا ينشر، ويعرف كيف يتعامل مع المعلومات الحساسة، خاصة في أوقات الحروب .
ولكن اليوم، ومع امتلاك كل مواطن لهاتف ذكي، مزود بكاميرا فائقة الدقة واتصال دائم بالإنترنت، أصبح من السهل جدًا لأي شخص أن يلتقط صورة أو يسجل مقطعًا وينشره على الفور، دون أن يمر بأي مراجعة أو رقابة، ودون أن يُدرك حجم الضرر الذي قد يسببه لمجتمعه وجيشه وبلاده.
لقد شاهدنا في الواقع الكثير من الحالات التي وثّق فيها مواطنون ــ بحسن نية أحيانًا ــ حرائق أو استهدافات جوية، أو تحركات للقوات المسلحة، وهم يظنون أنهم يسهمون في إيصال الحقيقة أو أداء واجب وطني. لكن الحقيقة أن العدو يترصّد هذه المنشورات، ويستغلها لصالحه بشكل مباشر وخطير.
تصويرك لموقع استُهدف قد يكون بمثابة تأكيد مجاني للعدو بأن غارته أصابت هدفها بدقة، أو أن ضربته أخطأت، فيعيد حساباته ويصحح إحداثياته، ليصيب الهدف لاحقًا بدقة أكبر. وأحيانًا تكون صورك دليلاً استخباراتيًا يكشف للعدو تحركات قواتنا، ونوع تسليحها، وعدد جنودها، ومسار تقدمها، وهو ما يسهّل عليه نصب الكمائن أو توجيه ضربات موجعة.
كل ما تنشره ــ من غير قصد ــ قد يُستخدم ضد الوطن وضد الجيش الذي يحميك، فأنت من خلال صورة أو مقطع أو حتى كلمة، تقدم خدمة استخبارية مجانية للعدو، وتمنحه معلومات ما كان سيحصل عليها لولا منشورك.
إن الحرب الحديثة لم تعد تدار فقط بالبنادق والطائرات والدبابات، بل أصبحت المعلومات سلاحًا فتاكًا لا يقل خطورة عن أي سلاح تقليدي. وقد أدركت الجيوش والأجهزة الأمنية أهمية هذا النوع من الحروب، وهو ما يُعرف بـ”حروب الجيل الرابع” التي تُستخدم فيها وسائل الإعلام والسوشيال ميديا للتأثير على الرأي العام، وإضعاف الروح المعنوية، ونشر الفوضى، وتشتيت الانتباه.
فلا تكن، أيها المواطن، أداة في يد العدو من حيث لا تدري. لا تسمح لهاتفك أن يتحول إلى سلاح ضده وطنك. لا تنشر صور المواقع العسكرية، ولا مواقع القصف، ولا تحركات القوات، ولا حتى آثار الدمار، لأن كل ذلك يُعيد توجيه الضربات القادمة، ويخدم العدو أكثر مما يخدم الحقيقة أو المجتمع.
واعلم أن السبق الصحفي ليس مسؤوليتك، وأن هناك جهات رسمية ومؤسسات إعلامية مختصة ومصرّح لها وحدها بتغطية الأحداث ونقلها بما يراعي مصلحة الوطن ويحمي أمنه القومي.
فكر قبل أن تصور، تأمل قبل أن تنشر، واسأل نفسك دائمًا: من المستفيد من هذا النشر؟ هل سيُطمئن الناس أم سيبث فيهم الرعب؟ هل سيخدم الوطن أم العدو؟ فإن كان فيه ذرة ضرر، فدع هاتفك جانبًا، وكن في صف الوطن.
إن المعركة الحالية مع العدو الغادر ليست فقط معركة جبهات، بل معركة وعي أيضًا. والنصر فيها لا يتحقق إلا عندما يتحلى المواطن بالمسؤولية، ويدرك حجم ما قد تسببه صورة واحدة من كارثة، أو منشور واحد من خسارة.
كن شريكًا في النصر بصمتك، واحمِ جيشك بكتم المعلومة. فالعدو لا ينتظر منك سوى زلة واحدة… فاحذر أن تكون تلك الزلة سببًا في دماء أو هزيمة.