
حميدة أبو عشر شاعر سوداني فريد من طراز خاص، وُلد في مدينة ابو عشر ،ولد في زمنٍ كانت فيه الكلمة تصنع وعياً والموسيقى تُلهب الوجدان، لم يكن حميدة مجرد كاتبٍ للشعر الغنائي، بل كان مزيجاً من الصدق الشعبي والعمق الإنساني، قصائده تخرج من رحم الحياة، من سجون القهر ومن سطوح المحبة، وتشبهه تماماً: بسيطة في اللفظ، عميقة في الأثر، آسرة من غير تكلّف. “الحجل بالرجل” واحدة من قصائده التي كتبها من قلب الاعتقال، حين كان ينقل من سجن كوبر إلى الأبيض، عبر عن هذه المسيرة (أنه شاقي المفازة بليل) والمفازة هنا تعني الأرض الواسعة ، كانت الأغلال التي في قدميه تُحدث صوتاً أليماً، لكنه حولها إلى موسيقى، إلى “حجل بالرجل”، في تعبير يُخفي خلفه وجعاً وطنياً ومأساة إنسانية نُسجت منها أغنية
النص يزخر بالصور البلاغية البسيطة لكنها مشبعة بالإيحاء، كـ (العزول جاب لي خبر بالسو نسام البحر” قلب الخبر باللو ، السو هنا تعني السوء وكتبها السو للضرورة الشعرية وكذلك اللو تعني اللوي وقاسها علي نقس القالب الشعري الذي أراد ، هنا تتجمل إستعارة توحي بالخبر الفاجع الذي يُلقى دون رحمة، محمولاً في بوسطة موجعة، و”أب قلباً طراك” إشارة للعاشق الذي هده الحنين وأضناه الوجد، نجد الجناس الخفي بين “المودة” و”الهوى”، وبين “دام هواك” و”تسوى”، مما يضفي موسيقية داخلية تُغني عن التكلّف في الوزن، والتكرار في “الحجل بالرجل يا حبيبي سوقني معاك” ليس مجرد لازمة، بل هو إستعطاف، إلحاح شعري يمسك بأهداب قلب المحبوب ويرجوه أن لا يترك صاحبه خلفه، كأنما الكلمات تمشي على قدمين مقيّدتين تنشدان الخلاص في ظل من يحب
اللحن الذي وضعه حسن عطية يكمل هذا المشهد الإنساني بتطريب حزين، بنغمة لا تفرح وإن تغنّت، فيها مسحة من شجن دفين تخرج من مقام البياتي أو الحجاز، تتمايل كمن يمشي حافياً على الأشواك ، الموسيقى لا تهرول، بل تتهادى، كأنها تعيش حالة الحجل فعلاً، ما بين الوقوف والوقوع، بين الرجاء واليأس
ثم جاءت مشاركة الفنان محمود عبد العزيز “الحوت” فأعادت إحياء هذه الأغنية لا على مستوى الأداء فقط، بل على مستوى التلقي الشعبي، الحوت لم يكن يغنيها فقط، بل كان “يعيشها”، ويصب فيها روحه كما يصب العسل المصفي في كأس مذهب ، نبرته الهائمة، وطريقته في المزاوجة بين الحنين والثورة، جعلت من الأغنية نبضاً جارفاً يخترق أجيالاً لم تعرف سجون الاستعمار ولا أغلال النقل من معتقل إلى آخر، لكنها عرفت الحنين، والخذلان، والتعلق بمن لا يُجيد الانتظار
إني من منصتي أستمع …. حيث احس إحساسا عميقا ….أن المستمع حين يسمع “الحجل بالرجل” بصوت الحوت، لا يسمع أغنية حب فقط، بل يسمع حكاية وطنٍ وأسر، يسمع عاطفة متشابكة بين السجن والوجد، بين القيود والحرية، بين شاعر كان يكتب دمه لا حروفه، ومطرب كان يسكب من روحه وجعاً ونغماً لا يُنسى.