
مواصلةً لرحلتي من بورتسودان إلى القاهرة مروراً بـالطريق الزراعي، لا يمكنني إلا أن أُسجل إعجابي بروعة المشاريع الزراعية التي تزين الطريق، وتحكي بصمتها الخضراء عن جمال مصر، وعن عراقة مدن الصعيد وكرم أهلها الأصيل.
وفي صباح يوم الجمعة، أول أيام عيد الأضحى المبارك، كنّا على مشارف مدينة الأقصر، حيث تتعانق جمال الطبيعة مع عبق التاريخ. توقفنا نسأل عن مخرج الطريق، فإذا بنا لا نقف فقط على قارعة الطريق، بل نقف أمام لوحة حية من الكرم والطيبة.
استقبلنا أهل الأقصر بـحفاوة القلب وكرم الضيافة، بين الماء والخضرة، وتحت أنغام زقزقة العصافير وفرحة الأطفال الذين يركضون بثياب العيد، وفي الأفق تتلألأ الابتسامات الصعيدية الصادقة، تتمايل معها الثياب البيضاء التي تميز الهوية الصعيدية الأصيلة.
رأينا التاريخ والحضارة بأمّ أعيننا في مدينة الأقصر، تلك المدينة التي لا تُشبه سواها، فهي ليست مجرد مكان، بل متحف مفتوح يروي قصص الفراعنة على جدران المعابد، وينطق بلسان الزمن.
كل حجر هناك يحمل أسرار آلاف السنين، من معابد الكرنك إلى وادي الملوك، ومن ضفاف النيل التي شهدت مواكب الملوك والكهنة، إلى تلك الأعمدة التي ما زالت شامخة، تتحدى الزمن وتُحدثنا بلغة الخلود والعبقرية.
في الأقصر، لم نقرأ التاريخ… بل عشنا فيه. تلمّسنا جدران المعابد، فشعرنا بحرارة الشمس التي لامستها منذ آلاف الأعوام، ووقفنا أمام تماثيل الملوك، نشعر بعظمتهم وهيبتهم وكأننا نسمع صوت الحضارة يهمس في آذاننا.
ودّعنا أهل الأقصر وقلوبنا ممتلئة بامتنانٍ لا يُنسى، حملنا معنا دعواتهم الصادقة بسلامة الطريق، وحفاوة وداعهم التي لا تقل جمالاً عن حفاوة اللقاء.
وما إن غادرنا، حتى أخذت أتلفّت يمينًا ويساراً، أتمعن في جمال الطبيعة، في الأرض الخصبة التي تنبض بالحياة، في الزرع الأخضر الممتد كالسجاد على جانبي الطريق، وكأن الطبيعة ترسل تحاياها لنا على طريقتها الخاصة.
واصلنا المسير صوب مدينة قنا، بلد الفقهاء والعلماء، حيث التراث الديني والعلمي يزهر كما يزهر النيل على ضفافه. قنا ليست مجرد محطة على الطريق، بل هي عنوان للعلم والتاريخ، وموعد مع صفحة جديدة من عبق الصعيد.
حين وطأت أقدامنا قنا، لم نكن ندخل مدينة عادية، بل دخلنا أرضًا تُعرف بين أهل الصعيد بـمدينة الأشراف، إذ تحتضن بين جنباتها أنساب آل البيت وذرية النبي الكريم صلي الله عليه وسلم، فامتزجت فيها القداسة بالكرم، والعلم بالوقار.
في قنا، تتنفس الروحانية مع الهواء، وتلمح الهيبة في ملامح وجوه سكانها، كأن النُبل قد إستقر في طباعهم، والعلم الشرعي يسكن مجالسهم.
هي مدينة تتزين بثوبٍ من الوقار، وتفوح منها رائحة الطيب والصلاح، ولا عجب أن يُطلق عليها “مدينة الأشراف”، فقد حفرت في وجدان الصعيد مكانةً خاصة، محفوفة بمحبة الناس.
غادرنا قنا ونحن نحمل في ذاكرتنا عبق العلم والفقه، متوجهين شمالاً عبر الطريق الذي يعانق نهر النيل، كأننا نسير بمحاذاة شريان الحياة المصري منذ آلاف السنين.
وها نحن نصل إلى سوهاج، تلك اللؤلؤة الصعيدية التي تجمع بين التاريخ العريق والثقافة الشعبية الغنية. سوهاج ليست مجرد مدينة، بل ذاكرة أمة، تختزن في طرقاتها تراثًا فرعونيًا وقبطيًا وإسلاميًا، وتفوح من أسواقها وروح ناسها رائحة الأصالة والكرامة.
هنا، على ضفاف النيل، يقف الإنسان متأملًا، فخورًا، مستشعرًا الموقع الاستراتيجي الذي منح هذه المدينة مكانة خاصة في تاريخ مصر، حيث الزراعة تنبض بالحياة، والعادات والتقاليد تُروى من جيل إلى جيل كأنها أناشيد محفوظة في الذاكرة.
في سوهاج، رأينا التراث الشعبي يتجسد في كل تفاصيل الحياة ،في الزي الصعيدي، في لهجة الكلام، في المجالس العامرة بالحكمة والشاي المُعتّق بالمحبة.
نواصل