
في صبح طويلٍ أرادوه مقبرةً للمدينة، تداعت المليشيا من كل الجهات، زحفوا كما تفعل الجراد في موسم القحط، يحملون في صدورهم وهم الانتصار، ويجرّون خلفهم لعنة التاريخ، جمعوا ما جمعوا، وحشدوا ما حشدوا، واتصل العميل بسيده ليهمس في أذنه: الأمر انتهى، الفاشر ستسقط اليوم ! فضحك سيده، وسكر بخمر الغرور، وظن أن المدينة التي صمدت دهورًا ستنحني لعاصفةٍ من دخانٍ ومرتزقة
لكن الفاشر لا تسقط، لأنها لم تُبنَ من طينٍ بل من كبرياء،
من حيث لا يحتسبون، انقلبت الموازين، واشتعلت السماء بنيرانٍ تعرف وجه العدو جيدًا. أطبقت نسور الجو على الحلم المكسور، فأحالته رمادًا، وارتجت الأرض تحت وقع الضربات؛ تحوّل الفرح إلى فزع، والغرور إلى هلاك، والسكارى الذين ظنوا النصر قريبًا صاروا بين قتيلٍ ومولولٍ في ظلمة الهزيمة
دقلو الذي ملأ الدنيا ضجيجًا باسم الفاشر، صار اسمه يُتمتم به الخائفون كتعويذةٍ من نحسٍ قديم، وطاحونته التي طحن بها الأبرياء، طحنته هي الأخرى بلا رحمة كل يومٍ يعود المشهد ذاته: محاولةٌ فاشلة، وهلاكٌ يتكاثر، ومعنوياتٌ تنحدر إلى قاعٍ لا قرار له
أما الفاشر، فهي تُعيد رسم الحكاية على طريقتها، مدينةٌ تتوضأ بالدم وتصلي للوطن، وترفع دعاءها في الفجر مع الطلقة الأولى، فتستجيب لها السماء ، هناك أناسٌ لا يعرفون الخوف، وجوههم مبللة بالغبار واليقين، يبتسمون في وجه الموت لأنهم يؤمنون أن الله معهم وأن الوطن يستحق
الفاشر ليست مدينةً فقط، بل قصيدةٌ كتبتها السماء بالحبر الأحمر، قصيدةٌ عنوانها الصمود، قافيتها النصر، وموسيقاها نبض القلوب التي لم تخن، كل بيتٍ فيها يحمل اسم السودان، وكل فاصلةٍ فيها تسكب المعنى الشريف للكرامة
أروني من يجرؤ على كتابة هذه القصيدة، من يستطيع نظم هذا الجمال الذي يفوق البيان؟
إني من منصتي أنظر ….. حيث أرى…. أن الفاشر مكتوبة على جبين الوطن، لا يكتبها شاعر، بل تكتب نفسها بالفعل، بالدم، وبالصبر، وبالإيمان الذي لا يُهزم
ولذلك ستظل كما كانت القصيدة التي لم يكتبها شاعر بعد.