عثمان ميرغني يكتب: “رأي العين”

المشهد المثير للمواجهة الأولى المصيرية بين الحق والباطل في معركة بدر: جيش قريش القوي عدةً وعتادًا وعددًا، ثلاثة أضعاف جيش المسلمين.
التصوير القرآني فائق الدقة يلتقط صورة مهيبة:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) [آل عمران: 13].
“رأي العين”، حسب التشريح البيولوجي، يحدث عندما ينعكس الضوء من الأشياء فتلتقطه القرنية – الجزء الشفاف الأمامي من العين – ثم ترسله إلى العدسة، ومنها إلى الشبكية. هذه العملية تمثل لقطة ضوئية حقيقية للأشياء أمام العين، تنعكس منها الأشعة الضوئية.
لكن من الشبكية، يتغير الأمر كليًا. بدلاً من صورة بصرية، تتحول الإشارات إلى نبضات كهربائية تنتقل عبر العصب البصري إلى الدماغ. الدماغ لا يرى الضوء مباشرة، بل يفسر هذه الإشارات الكهربائية.
ولأن الإنسان يرى بعينين، يقوم الدماغ بتحليل الإشارات الواردة من كلتا العينين لقياس المسافات والعمق، مكونًا صورة ثلاثية الأبعاد، أو ما يُسمى “الإدراك البصري”. لكن هذا الإدراك لا يتحقق فقط بالإشارات الكهربائية الواردة عبر العصب البصري، بل يتطلب مسحًا سريعًا للخبرات السابقة والمعلومات المخزنة في الدماغ. إنها عملية معرفية معقدة، لكنها تتم بسرعة فائقة لمواكبة المشاهد المتتالية أمام العين.
هذه السرعة في تحليل الإشارات وتكوين الإدراك تصنع فارقًا كبيرًا بين شخص وآخر، بل وبين سلوك وآخر للشخص نفسه. على سبيل المثال، لاعب كرة القدم الماهر، الهداف الذي لا يفوت فرصة إيداع الكرة في الشباك، قد يكون أقل قدرة عضلية أو حركية من لاعب آخر يفشل في إصابة المرمى رغم الفرص السهلة. الفرق يكمن في سرعة “الإدراك”، أي الزمن الذي يحتاجه الدماغ لتفسير الإشارات البصرية ودمجها مع المعلومات المخزنة للوصول إلى حالة الإدراك.
اللاعب الماهر يكمل هذه العملية في زمن قصير جدًا، فيتمكن من اتخاذ القرار والتحرك في الوقت المناسب. أما اللاعب الأقل مهارة، فيحتاج إلى زمن أطول نسبيًا، مما قد يجعله يفوت الفرصة المناسبة.
“رأي العين”، إذن، لا يقتصر على الضوء المنعكس من الأشياء، بل يشمل المعالجة الدماغية التي تستند إلى الخبرة السابقة والمعلومات المخزنة لتكوين الإدراك.
عندما يقف جندي من جيش قريش وينظر إلى جيش المسلمين، فإن الضوء المنعكس عبر القرنية والعدسة إلى الشبكية لم يتغير. الشبكية ترسل الإشارات الكهربائية عبر العصب البصري إلى الدماغ، وكل شيء حتى هذه اللحظة طبيعي. لكن اللحظة الفارقة تأتي عندما يحلل الدماغ هذه الإشارات مستفيدًا من الخبرة السابقة، فيصل إلى إدراك مغاير: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ. الدماغ يفسر الإشارات بضعف ما تحتويه الصورة الفعلية، فيصنع إدراكًا مضاعفًا.
في سياق آخر، نجد الصورة المعاكسة في قصة سيدنا موسى مع سحرة فرعون. في المواجهة المشهودة أمام الجمهور، ألقى السحرة عصيّهم وحبالهم، فكان المشهد مخيفًا لكنه متوهم:(فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ) [طه: 66].
هنا، الوضع مختلف. عبارة يُخَيَّلُ إِلَيْهِ تشير إلى أن الصورة الضوئية نفسها ليست صحيحة، فالتلاعب حدث في الصورة البصرية وليس في الإدراك الدماغي. يشبه ذلك ما يفعله الحاوي أمام الأطفال في ألعابه السحرية، كأن يضع بيضة فوق رأس طفل ثم يستخرجها من عنقه.
(فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف: 116].“استرهبوهم” لم يكن رهبة حقيقية، بل اصطناع حالة خوف مبنية على صورة زائفة.
هنا يبرز السؤال الكبير:هل يستطيع الإعلام الحديث أن يحقق مبدأ “رأي العين”، أم يكتفي بـ”استرهبوهم”؟
الإجابة نوضحها لاحقًا…